الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
ويدلّ عليه قراءة ابن مسعود: {وقد تب} وروي: أنه لما نزل {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] رقى الصفا وقال: يا صباحاه، فاستجمع إليه الناس من كل أوب. فقال: «يا بني عبد المطلب، با بني فهر، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقيَّ»؟ قالوا: نعم؛ قال: «فإني نذير لكم بين يدي الساعة»؛ فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا دعوتنا؟ فنزلت.فإن قلت: لم كناه، والتكنية تكرمة؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مشتهراً بالكنية دون الاسم، فقد يكون الرجل معروفاً بأحدهما، ولذلك تجري الكنية على الاسم، أو الاسم على الكنية عطف بيان، فلما أريد تشهيره بدعوة السوء، وأن تبقى سمة له، ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة من قرأ {يدا أبو لهب}، كما قيل: علي بن أبو طالب. ومعاوية بن أبو سفيان؛ لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان، أحدهما: عبد الله- بالجرّ، والآخر عبد الله بالنصب. كان بمكة رجل يقال له: عبد الله- بجرّة الدال، لا يعرف إلاّ هكذا.والثاني: أنه كان اسمه عبد العزّى، فعدّل عنه إلى كنيته. والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته؛ فكان جديراً بأن يذكر بها. ويقال: أبو لهب، كما يقال: أبو الشر للشرير. وأبو الخير للخير، وكما كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المهلب: أبا صفرة، بصفرة في وجهه. وقيل: كنى بذلك لتهلب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به، وبافتخاره بذلك. وقرئ: {أبي لهب} بالسكون. وهو من تغيير الأعلام، كقولهم: شمس بن مالك بالضم {مَا أغنى} استفهام في معنى الإنكار، ومحله النصب أو نفي {وَمَا كَسَبَ} مرفوع. وما موصولة أو مصدرية بمعنى: ومكسوبه. أو: وكسبه. والمعنى: لم ينفعه ماله وما كسب بماله، يعني: رأس المال والأرباح. أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها، وكان ذا سابياء. أو ماله الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه. أو ماله التالد والطارف.وعن ابن عباس: ما كسب ولده. وحكي أن بني أبي لهب احتكموا إليه، فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع فغضب، فقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:«إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» وعن الضحاك: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث، يعني كيده في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.وعن قتادة: عمله الذي ظنّ أنه منه على شيء، كقوله: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان: 23] وروي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي {سيصلى} قرئ: بفتح الياء وبضمها مخففاً ومشدداً، والسين للوعيد، أي: هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته {وامرأته} هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كانت تمشى بالنميمة ويقال: للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي: يوقد بينهم النائرة ويورث الشرّ. قال: جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ، ورفعت عطفاً على الضمير في {سيصلى} أي: سيصلى هو وامرأته. و{فِى جِيدِهَا} في موضع الحال، أو على الابتداء، وفي جيدها: الخبر. وقرئ: {حمالة الحطب} بالنصب على الشتم؛ وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل: من أحب شتم أم جميل. وقرئ: {حمالة الحطب} و {حمالة للحطب}: بالتنوين، بالرفع والنصب. وقرئ: {ومريته} بالتصغير. المسد: الذي فتل من الحبال فتلاً شديداً، من ليف كان أو جلد، أو غيرهما. قال: ورجل ممسود الخلق مجدوله. والمعنى: في جيدها حبل مما مسد من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون: تخسيساً لحالها، وتحقيراً لها، وتصويراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن، لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها؛ وهما في بيت العزّ والشرف. وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عيّر بعض الناس الفضل بن العباس ابن عتبة ابن أبي لهب بحمالة الحطب، فقال: ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك؛ فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل من ما مسد من سلاسل النار؛ كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة».
والجيد هو التنوين، وكسره لالتقاء الساكنين. و{الصمد} فعل بمعنى مفعول، من صمد إليه إذا قصده، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج. والمعنى: هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالإلهية لا يشارك فيها، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه، وهو الغني عنهم {لَمْ يَلِدْ} لأنه لا يجانس، حتى يكون له من جنسه صاحبه فيتوالدا. وقد دلّ على هذا المعنى بقوله: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} [الأنعام: 101]. {وَلَمْ يُولَدْ} لأنّ كل مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أوّل لوجوده وليس بجسم ولم يكافئه أحد، أي: لم يماثله ولم يشاكله. ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، نفياً للصاحبة: سألوه أن يصفه لهم، فأوحى إليه ما يحتوى على صفاته، فقوله: {هُوَ الله} إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء وفاطرها، وفي طيّ ذلك وصفه بأنه قادر عالم؛ لأنّ الخلق يستدعي القدرة والعلم، لكونه واقعاً على غاية إحكام واتساق وانتظام. وفي ذلك وصفه بأنه حيّ سميع بصير. وقوله: {أَحَدٌ} وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. وقوله: {الصمد} وصف بأنه ليس إلاّ محتاجاً إليه، وإذا لم يكن إلاّ محتاجاً إليه: فهو غني. وفي كونه غنياً مع كونه عالماً: أنه عدل غير فاعل للقبائح، لعلمه بقبح القبيح وعلمه بغناه عنه. وقوله: {لَمْ يُولَدْ} وصف بالقدم والأوّلية.وقوله: {لَمْ يَلِدْ} نفي للشبه والمجانسة. وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} تقرير لذلك وبت للحكم به، فإن قلت: الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نصّ سيبويه على ذلك في كتابه، فما باله مقدّماً في أفصح كلام وأعربه؟ قلت: هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه؛ وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف، فكان لذلك أهم شيء وأعناه، وأحقه بالتقدم وأحراه. وقرئ: {كفؤاً} بضم الكاف والفاء. وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء: فإن قلت: لم كانت هذه السورة عدل القرآن كله على قصر منها وتقارب طرفيها؟ قلت: لأمر ما يسود من يسود، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده، وكفى دليلاً من اعتراف بفضلها وصدق بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: إنّ علم التوحيد من الله تعالى بمكان، وكيف لا يكون كذلك والعلم تابع للمعلوم: يشرف بشرفه، ويتضع بضعته؛ ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله، وإنافته على كل علم، واستيلائه على قصب السبق دونه؛ ومن ازدراه فلضعف علمه بمعلومه، وقلة تعظيمه له، وخلوه من خشيته، وبعده من النظر لعاقبته. اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك، القائلين بعدلك وتوحيدك، الخائفين من وعيدك. وتسمى سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين، وروى: أبيّ وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد» يعني ما خلقت إلاّ لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه السورة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سمع رجلاً يقرأ: قل هو الله أحد فقال: «وجبت». قيل: يا رسول الله وما وجبت؟ قال: «وجبت له الجنة».
وقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها».
|